الإشعارات
النبذة
الواقع العربيّ اليوم مرهون لجدليّات التمسّك بالتراث والهويّة والانخراط في ركب المعاصرة والتطوّر، ولذلك تبرز اللغة العربيّة في جوهر النقاش من حيث كونها من أعرق عناصر الهويّة وأهمّ أدوات التفاعل في المجتمعات العربيّة من جهة، ومن حيث كونها وسيلةً في الانخراط المعرفيّ نحو المعاصَرة الواعية والمستقبل الواعد من جهة أخرى. وضمن هذه الرؤية يأتي تقرير "واقع اللغة العربيّة ومستقبلها" في محاولة للإسهام في توجيه الجدل نحو رؤية موضوعيّة لواقع اللغة العربيّة في مجتمعاتها ولدورها في هذه المجتمعات، انطلاقًا من رصد الميدان ووصولًا إلى بناء الخطط والاستراتيجيّات الاستشرافيّة بقصد تثوير الإمكانيّات وتطويرها.
وقد أطلق هذا التقرير صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم؛ نائب رئيس دولة الإمارات العربيّة المتّحدة؛ رئيس مجلس الوزراء حاكم دبيّ، في توجيهه الذي تزامن مع اليوم العالميّ للّغة العربيّة في ديسمبر 2018 في إطار ترسيخ اللغة العربيّة لغةً للعلم والمعرفة والهويّة. وقد اعتبرت معالي نورة بنت محمّد الكعبيّ وزيرة الثقافة والشباب في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة أنّ هذا التقرير هو بمثابة حجر الأساس للأجندة الوطنيّة للّغة العربيّة بأهدافها وأولويّاتها المرتبطة مع مئويّة الإمارات.
إنّ هذا المنطلق يجعل من التقرير دعامةً حضاريّة من حيث إنّه يأتي في وقت حرج تعيشه المجتمعات العربيّة واللغة العربيَّة في لحظة تاريخيّة فارقة تُمسك التكنولوجيا فيها بزمام المستقبل؛ ولم يعد مقبولًا ألّا تكون اللغة العربيّة حاضرةً فيها لخدمة مجتمعاتها والإسهام في بناء الإرث المعرفيّ الإنسانيّ. غير أنّ هذه اللحظة ما زالت تشهد قلّةَ فاعليّةٍ للّغة العربيّة في إنتاج الحاضن المعرفيّ، وهذا ما حصرها في نطاق الوجدان التراثيّ الذي ينتمي إلى لحظة تاريخيّة وحضاريّة ماضية كانت لها أمجادها العريقة التي أسهمت في التلاقح المعرفيّ بين الحضارات والتعايش اللغويّ والإنسانيّ. ولكنّ الواقع اليوم تجاوز هذه اللحظة المزهرة وأنتج ذهنيّة عربيّة لغويّة منشغلة بالبكائيّات على أمجاد لغتها، وكان حريًّا بها أن تستوعب أزمتها وتنطلق في بناء إنسانها ومجتمعاتها المعاصرة. إنّ هذا الجوّ المشحون أنشأ علاقة متأزّمة بين اللغة العربيّة وكثير من بناتها وأبنائها الذين زهدوا في إمكانيّة جعلها أداة إنتاجٍ وشقٍّ لقنوات ومسارب معرفيّة، فاضطرّت المجتمعات العربيّة راضخةً لهذا الواقع أن تتبنّى لسانًا غير لسانها في هذه القنوات والمسارب بكلّ ما يجرّه ذلك من تبعات اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة.
وإذا نظرنا إلى واقع الحال وجدنا آثار هذه الأزمة تنعكس على كلّ مجالات الحياة في المجتمعات العربيّة، ففي معظم الدول العربيّة لا يزال البحث العلميّ في العلوم وتعليمها ضئيل التفاعل بالعربيّة إن لم يكن منعدمًا. ورغم تراكم القرارات الحكوميّة العربيّة وتقارير اجتماعات القمّة فإنّه لم تنجح من مبادرات التأسيس العلميّ بالعربيّة إلّا تجارب معدودة وبشكل نسبيّ على مستوى التشريع والتأطير المؤسّساتيّ أو على مستوى التجارب الفرديّة. ولا تزال اللغة العربيّة أقلّ حيويّةً في الفضاء العامّ وفي وسائل الإعلام، حيث يغلب على المظهر الخارجيّ اللغويّ الصوتيّ والبصريّ زحف اللغات الأجنبيّة وهيمنتها على اللغة العربيّة فصيحها ومحكيّها. وما تزال مناهج تدريسها مقولبةً ومعلَّبةً في أُطُر تقعيديّة لا تمنح لطلّابها الكفاءة والليونة في استعمالها ولا القدرة على جعلها مواكِبةً للحاجات المعاصرة والمستجدّات التكنولوجيّة والمعرفيّة. ولذلك ما زالت مجتمعاتنا في حاجة إلى أن تستعير لسانًا غير العربيّة كي تقدّم لأفرادها الخدمات.
ولكن في الوقت ذاته، يحمل هذا الواقع، رغم مرارته، بذور الانتعاش؛ فاللغة العربيّة مازالت بفصيحها ومحكيّها لغة التعامل المجتمعيّ، ولغة التواصل الوجدانيّ بين أفراد المجتمعات العربيّة، ولغةً تتوارث بها الأجيال التراث وتتمسّك بالانتماء إليه والاجتماع حوله والتماسك من خلاله. بالإضافة إلى ذلك، وكما يكشف هذا التقرير، ينتشر لدى نسبة معتبَرة من صنّاع القرار والنخبة المنتجة للمعرفة وأفراد المجتمع وعيٌ كبير بضرورة إنعاش العربيّة واعتمادها في مجتمعات المعرفة للاستجابة للمتطلّبات المرحليّة. ومن ثمّة، كان على كاهل هذا التقرير أن ينطلق من الواقع بذهنيّة المتفحّص للمرض، المستكشف لأعراضه، المحلّل لمعطياته، الباحث عن إمكانات العلاج فيما يراه من إضاءات ولو كانت قليلة أو باهتة.
إنّ هذا التقرير لا يتوجّه إلى نخبة معيّنة في المجتمعات العربيّة، بل يقدّم معطيات واسعة بإمكانها أن تسهم في بناء تصوّر مكتمل عن حال اللغة العربيّة وتسمح بالبحث في ضوء ذلك عن سبُل لإنعاشها وتسخيرها لخدمة مجتمعاتها. فالمعنيّ بما يقدّمه التقرير هو كلّ شرائح المجتمع العربيّ، من أعلى هرم صناعة القرار السياسيّ والاقتصاديّ، إلى جمهور المتلقّين في المجتمع، ومن النخبة الأكاديميّة الفاعلة في إنتاج المعرفة بالجامعات ومراكز البحث كالمدرّسين والباحثين والمخترعين والطلبة والإعلاميّين والكتّاب والأدباء، إلى الكتلة المتلقّية للمعرفة وللخدمة. بل المعنيّ به هو كلّ مهموم بسؤال الهويّة والتطوّر والمصير، ونعني به كلّ إنسانٍ عربيّ موجوعٍ من حال اللغة العربيّة وساعٍ إلى أن يجعلها لغة واقعه كما هي لغة وجدانه. إنّ هذا التقرير يقرّب الواقع من الفاعلين والمنفعلين باللغة العربيّة ومعها، بقصد أن يوفّر لهم قاعدة تفكير وعمل لطرح مقاربات جديدة تعبر بها إلى مستقبلٍ أفضل لها ولمجتمعاتها بسلامة ورقيّ وانفتاح مدروس.
يمتدّ التقرير جغرافيًّا على مدى المنطقة العربيّة حسب ما توفّر لديه من معطيات في المجالات التي يدرسها، ويركّز زمنيًّا على السنوات العشر الأخيرة بين 2010 و2020. أمّا المحتوى فتغطّي محاورُه مجالات تُعَدّ جوهريّة من حيث مستوى حضورها وفاعليّتها في الجدل الجاري حول دور العربيّة في بناء مجتمعاتها المعاصرة، ومن جهةٍ أخرى تتعالق هذه المجالات فيما بينها في بناء تصوّر واعٍ لحقيقة وضع العربيّة في مجتمعاتها، ويكمّل بعضها بعضًا في تخطيط برنامج حيويّ وفاعل لاستثمارها تنمويًّا ومعرفيًّا وحضاريًّا.
ولتحقيق هذه التغطية بشكل شامل، يتناول التقرير خمسة مجالات رئيسة تفرّعت عنها مجالات ثانويّة غطّتها المحاور. أمّا المجالات الرئيسة فهي: (1) سلطة التشريع الذي غطّاه المحور الأوّل المتعلّق بمجال التشريعات؛ (2) سلطة الإعلام وما لها من تأثيرات على الفضاء العامّ وغطّاه المحور الثاني المتعلّق بواقع اللغة العربيّة كما يصوّره الإعلام، والمحور الثالث المتعلّق باستخدامات العربيّة في وسائل الإعلام وفي الفضاء العامّ؛ (3) سلطة المنتَج المعرفيّ وغطّاه المحور الرابع المتعلّق بواقع النشر في العالم العربيّ، وتناوَل بالأخصّ استخدامات اللغة العربيّة في الرواية المعاصرة، إلى جانب المحور الخامس المتعلّق بحضور اللغة العربيّة في التكنولوجيا؛ (4) مجال سلطة التكوين المعرفيّ، وهو أهمّ مجال في طرحنا ولذلك غطّتْه ثلاثة محاور: المحور السادس المعنيّ بالترجمة، إلى جانب المحور السابع الذي يستطلع تدريس العلوم والبحث العلميّ، والثامن الذي يتناول مواقف الطلّاب الجامعيّين في العالم العربيّ واعتقاداتهم حول اللغة العربيّة، والمحور التاسع في دراسته لواقع اللغة العربيّة في المقاربات البيداغوجيّة الجديدة في المناهج المدرسيّة؛ (5) مجال الانتشار وغطّاه المحور العاشر الذي تناول اللغة العربيّة في عوالم جديدة.
ولأنّ محاور التقرير مترابطة عضويًّا ومتفاعلة من حيث النشاطات والمسؤوليّات المنوطة بها وبنطاقاتها في خدمة هذا التقرير، كان ترتيب المحاور من المهمّات الصعبة. ولذلك اعتمدت هيكلته على الرؤية الهرميّة، حيث انطلق من التشريع بوصفه الدعامة التأسيسيّة لأيّ مبادرة لإنعاش اللغة العربيّة، ثمّ تناول الإعلام بوصفه الصلة بين السلطة التشريعيّة وبين الفرد ولما يحمله من ثقل سلطويّ في صناعة فضاء عامّ للّغة العربيّة في مجتمعاتها. وعرّج بعدها على مجال المنتَج المعرفيّ الذي يتمثّل في النشر والمنتَج التكنولوجيّ بوصفهما متعلّقَين مباشرة بالتلقّي العامّ في المجتمعات العربيّة من حيث التلقّي الأدبيّ أو التلقّي الاستهلاكيّ. ثم انتقل، بعد ذلك، إلى سلطة التكوين المعرفيّ التي شملت تقصّي حضور العربيّة في الترجمة وفي التعليم الجامعيّ والبحث العلميّ وفي مناهج التعليم، ليتناول، أخيرًا، قضيّة انتشار اللغة العربيّة واحتكاكها بالآخر خارج المنطقة العربيّة. فليس من قبيل المصادفة أن ينتقل هذا الخطّ المنهجيّ من داخل المجتمعات العربيّة، التي إن ازدهرت فيها اللغة العربيّة وانتشرت فسينعكس ذلك على وضعها خارج النطاق الجغرافيّ الذي تنشط فيه اللغة العربيّة، وهما النطاق الإسلاميّ (وهذا لكونها لغة الممارسة الدينيّة الإسلاميّة)، والنطاق العربيّ (لكونها اللغة الأصليّة للمجتمعات العربيّة).
يُعنى المحور الأوّل برصد التشريعات القانونيّة التي سُنَّت لدعم اللغة العربيّة وتعزيز وجودها في الحياة العامّة، وقد استند إلى دراسة مسحيّة دقيقة للمنجَزات القانونيّة والهيكليّة للمؤسّسات والمنظّمات والهيئات الوطنيّة والعربيّة التي تُعنى بالمبادرات والأنشطة المختصّة بالنهوض باللغة العربيّة.
ويرصد المحور الثاني اتّجاهات الخطاب العربيّ الإعلاميّ المعاصر حول واقع اللغة العربيّة ومستقبلها من خلال ما تعكسه الجرائد والمواقع الإلكترونيّة والبرامج التلفزيونيّة في مختلف أنحاء العالم العربيّ. والغرض من هذا المسح هو الكشف عن موقف الإعلام العربيّ بخصوص واقع اللغة العربيّة بإيجابيّاته وسلبيّاته وبالطموح المنفتِح على معالجة الوضع.
وإذ يضيء المحور الثالث على موقع اللغة العربيّة من الإعلام أيضًا، فإنّه يتناول توصيف لغة الإعلام بحدّ ذاتها بما هي قالب لإيصال المادّة الإعلاميّة. فيركز على توصيف اللغة العربيّة المستخدمة في وسائل الإعلام وخاصّةً في نشرات الأخبار والبرامج الحواريّة في أنحاء مختلفة من العالم العربيّ وفي الإعلانات المقروءة والمسموعة في وسائل الإعلام. ويهدف في ذلك إلى رصد التطوّرات التي تشهدها اللغة العربيّة في مجتمعاتها بقصد استيعاب التنوّع الذي تعكسه، لا سيّما فيما يتعلّق بالتفاعل بين العربيّة الفصحى واللهجات المحكيّة. وينقل هذا المحور مشاهد من واقع اللغة العربيّة في الفضاء المكانيّ العامّ من خلال أسماء المحلّات التجاريّة والمجمّعات التسوّقيّة والمطاعم والفنادق وفي لغة الإعلانات المرصودة للسلع والخدمات.
ويعتني المحور الرابع بواقع النشر في العالم العربيّ، فيرصد التحدّيات التي تواجه هذا القطاع، كما يركّز على توصيف اللغة العربيّة المعاصرة في الرواية العربيّة بوصفها لغة الأدب التي تعكس واقع العربيّة في المجتمعات العربيّة من حيث مستوياتها وتنوّعها واستخداماتها. ويستند هذا المحور إلى مسح عيّنة من الروايات العربيّة في مختلف المجالات ومن مختلف الفئات العمريّة للكتّاب خلال العشريّة الأخيرة.
أمّا جانب التكنولوجيا فقد تناوله المحور الخامس في بحثه عن مدى التفاعل بين اللغة العربيّة والصناعة التكنولوجيّة من حيث التأطير النظريّ لآراء الفاعلين في المجال، والذي يرصد التحدّيّات وإمكانيّات تجاوزها، ومن حيث المخرجات الميدانيّة التي تستعرض المنتَجات الإلكترونيّة الداعمة للّغة العربيّة أو التي أُنتِجت باللغة العربيّة، لا سيّما فيما يتعلّق بتطبيقات الذكاء الصناعيّ والترجمة الآليّة وتطبيقات معالجة اللغة الطبيعيّة وتطوّر محرّكات البحث بالعربيّة. وقد رصد هذا المحور حركةً نشطة في تفعيل العربيّة في مجال التكنولوجيا، والتي يمكن اعتبارها منطلقات إيجابيّة نحو تصحيح مسار هذا النشاط لتنمية المبادرات وتفعيلها بشكل أكثر مواكبةً للحاجات العربيّة في المجتمعات العربيّة.
ولأنّ الترجمة هي البوّابة لنقل المعرفة قبل الانطلاق في إنتاجها، فقد اعتنى المحور السادس بدراسة الواقع الراهن للترجمة من وإلى اللغة العربيّة. وفي ذلك رصَد المجالات التي تتركّز فيها نشاطات الترجمة على مستوى التنظير والمنهج وعلى مستوى التطبيق والمخرجات. كما تلمّس التحدّيات التي تواجه تعريب المصطلحات الأجنبيّة في مجالات مختلفة منها الدراسات الإسلاميّة والفلسفة والعلوم، وتناول أثر هذه التحدّيات في حركة البحث العلميّ بالعربيّة وخاصّةً في ميدان العلوم.
أمّا التعليم العالي والبحث العلميّ بوصفهما محرِّكَي التطوّر والمعاصرة، فيتناولهما المحور السابع في بحثه حول واقع اللغة العربيّة من حيث استخدامها في تدريس العلوم في الجامعات العربيّة وفي ميدان البحث العلميّ. وهو يهدف إلى رصد وتحليل التحدّيات التي تواجه الباحثين العرب في كتابة الأبحاث العلميّة بالعربيّة ونشرها، والتي تواجه المجتمع الأكاديميّ في مجال تعليم العلوم باللغة العربيّة من صنّاع مناهج ومدرّسين وطلبة. ومن الأدوات التي استند إليها هذا المحور استطلاع أعدّه فريق العمل وشارك فيه باحثون عرب من مختلف التخصّصات والدول العربيّة. بالإضافة إلى ذلك، عقد الفريق جلسات حواريّة وحلقات دراسيّة وحواريّة مع عيّنة من أعضاء المجتمع الأكاديميّ العربيّ لتشخيص جذور الأزمة على مستوى التنظير المنهجيّ الرسميّ وعلى مستوى الممارسة الميدانيّة.
ومن منظور أكثر تركيزًا استطلع المحور الثامن آراء شريحة واسعة من الطلّاب العرب في المرحلة الجامعيّة ليرصد آراء ومعتقدات حول علاقة الشباب الجامعيّين العرب بلغتهم وعلاقتها بثقافتهم وهويّتهم. وفي هذا الصدد أعدّ فريق العمل استبيانًا موسَّعًا شاركت فيه شرائح طلّابيّة من مختلف الاختصاصات في أنحاء العالم العربيّ التي استجابت له بأعداد كبيرة.
وتبعًا لذلك، يركّز المحور التاسع على رصد المقاربات البيداغوجيّة الجديدة التي تبنّتها بلدان عربيّة مختلفة في التخطيط لبرامج التعليم بهدف تطوير مناهج تدريس العربيّة وربطها بالنظريّات والممارسات الحديثة في تعليم اللغات وتعلُّمها. ويضيء المحور على الأسس التي ارتكزت عليها هذه المقاربات ضمن الجهود، والمبادرات العربيّة الرامية إلى إعادة تشكيل العلاقة بين اللغة ومتعلّميها بشكل ينمّي لديهم الشعور بالثقة في التواصل بلغتهم الأمّ، ويعزّز إيمانهم بها بوصفها لغة إنتاج المعرفة وخدمة المجتمع الذي كوّنتهم منظومته التعليميّة. ولعلَ أهمّ ما يعكسه هذا المحور هو وعي صنّاع المناهج وتشريعاتها في الدول العربيّة بضرورة وأهمّيّة تفعيل وتجديد سبل إدماج اللغة العربيّة لغةً للتعليم.
أمّا المحور العاشر والأخير فيتوسّع جغرافيًّا إلى النظر في أحوال اللغة العربيّة في عوالم جديدة في مجتمعات غير ناطقة بها، أي خارج عالمَيها التقليديَّين العربيّ والإسلاميّ، كما يدرس مدى حضورها وانتشارها والإقبال على تعلّمها، مع التركيز على رصد أسباب هذا الإقبال لقياس المكانة العالميّة التي وصلت إليها ويبحث في سبل تعزيزها.
وإذ تقوم هيكلة التقرير على هذه المحاور الدراسيّة العشرة، فإنّ جانبًا آخر منه يقدّم تجارب وتحليلاتٍ ميدانيّة، إمّا من خلال مقالاتٍ كتبها ضيوفٌ معنيّون بنشاط اللغة العربيّة، أو من خلال دراسات تقدّم بعض النماذج من المبادرات التي تسهم في إنعاش اللغة العربيّة في مختلف المجالات التي تتعلّق بها. وقد تمّ اختيار الضيوف وأصحاب المقالات والمبادرات المدروسة بناءً على إنجازاتهم وخبراتهم الميدانيّة في تنمية العلاقة بين اللغة العربيّة ومجتمعاتها.
ولأنّ قضيّة واقع اللغة العربيّة ومستقبلها هي قضيّة جوهريّة في وجدان وواقع كلّ المجتمعات العربيّة وكلّ فرد عربيّ لتعلّقها بقضيّة الهويّة وجدل المعاصرة، فقد توخّينا أن يكون أعضاء فريق عمل التقرير متنوّعًا بما يشمل معظم الدول العربيّة، وهذا لضمان تنوّع مصادره وتكاثف جهوده ونضج رؤيته من حيث الرصد والتشخيص أو من حيث البناء الاستشرافيّ. ونتج عن هذا التنوّع نقاشاتٌ فكريّة ومنهجيّة وبحثيّة مثمرة عكست جِدَّتَها وجدّيّتَها وموضوعيّتَها في تأطير محاور البحث وخطوات التنفيذ والرؤية الكلّيّة له.
يقوم الإطار المنهجيّ للتقرير على ركيزتين: رصد الواقع ومعطياته حول وضع اللغة العربيّة في مختلف الميادين المطروقة، وتحليل هذه المعطيات لتقديم رؤية استشرافيّة مستقبليّة يمكنها أن ترفد الجهود المنعِشة لإسهام اللغة العربيّة في إنتاج المعرفة وخدمة مجتمعاتها. ولا ندّعي أنّنا مسحنا كلّ موارد المعطيات من الواقع العربيّ، ولكنّنا حاولنا توسيع العيّنات وتنويعها على مستوى الامتداد الجغرافيّ وعلى مستوى المجالات والتخصّصات وعلى مستوى شرائح المجتمع المختلفة. كما لا ندّعي أنّنا مثّلنا جميع الأقطار العربيّة، بل احتكمنا في ذلك إلى مدى وفرة مصادر المعلومات في كلّ قطر.
ويسعى المسح الذي أجراه التقرير إلى تقديم صورة شاملة وواضحة عن حقيقة وضع اللغة العربيّة، بهدف الخروج من إطار الأحكام الانطباعيّة العامّة، التي هي، في معظمها، أقرب إلى الوجدانيّات البكائيّة والهزيمة النفسيّة الموروثة عن العهود الاستعماريّة، والتي لا تقوم على المعطيات الملموسة ولا على الأدلّة والأرقام. والفرق بين الأحكام الموثّقة والمدعَّمة بالأدلّة من الواقع وبين الأحكام الانطباعيّة العامّة أنّ الأولى بإمكانها أن تصحّح الأفكار بخصوص وضع العربيّة في مجتمعاتها وتضيء على المكنونات الإيجابيّة التي من الممكن الاعتماد عليها والانطلاق منها لبناء نماذج انتقاليّة واقعيّة وفاعلة، أمّا الرؤية الوجدانيّة الانطباعيّة فتمثّل رؤية قاصرة لا يمكن أن ينبني عليها أيّ مشروع للنهوض لكونها لا تنطلق من مقدّمات حُكميّة بل تنطلق أساسًا من الصورة الانهزاميّة النهائيّة وهو ما يجعلها غير قابلة للتجاوز.
إنّ التراكمات النفسيّة التي تقوم على الأحكام الانطباعيّة هي أشدّ خطرًا من التحدّيات و"الأخطار" التي تتعرّض لها اللغة العربيّة في راهنها، فالوضع المتأزّم إنّما يؤثّر في اللغة العربيّة في لحظتها التاريخيّة الراهنة فحسب، لكنّ الأحكام الانطباعيّة المسبقة هي حاجز انهزام يترسّخ في ذهنيّة الإنسان والمجتمع العربيّ مثل الشبح الذي لم يره أحد، ويتعارف الناس على الصورة المخيفة التي ينقلونها عنه، والتي تتضخّم من أحد لأحد ومن جيل لجيل ومن فكرة لفكرة، بينما لو تمّ تناقل تفاصيله من حيث الحجم وإمكانيّات الخطر وأدواته لأمكن تقدير حجم الأخطار وبناء جهاز دفاعيّ لمواجهتها، وإعداد خطط وتصوّرات استباقيّة للتقليل أو القضاء على هذه المخاطر مهما تغيّرت وتطوّرت أشكالها وأدواتها.
وعلى هذا الأساس، وفي ظلّ غياب دراسات ميدانيّة واستشرافيّة حول واقع اللغة العربيّة اليوم تزداد الحاجة إلى مثل هذا المشروع، ويزداد الإيمان والوعي بأهمّيّته. هذا الإيمان هو الرؤية التي انطلق بها القائمون على إنجاز هذا التقرير، من الرعاية الوزاريّة واللوجستيّة إلى فريق العمل فالمجتمع الذي شارك في إثراء المعلومات والاستبيانات المنجَزَة فيه. فقد أنجِز هذا التقرير بإيمان ويقين ووعي بالمسؤوليّة الكبيرة التي يتحمّلها أعضاء الفريق البحثيّ والقائمون على رعاية المشروع والمساهمون فيه من الباحثين تجاه اللغة العربيّة، لا بوصفها هويّةً فحسب، ولكن بوصفها أيضًا منطلقًا حضاريًّا يتعلّق به المجتمع العربيّ تعلّقًا وجوديًّا يقع تحت طائلة أسئلة المعاصرة والانتماء والمصير.
إنّ مشروع النهوض باللغة العربيّة هو مشروع أمّة والخلاص فيه لن يكون شخصيًّا على مستوى الأفراد، ولا قُطْريًّا على مستوى الدول، ولا تخصُّصيًّا على مستوى القطاعات، ولا جزئيًّا على مستوى الرؤى التشريعيّة والتنفيذيّة وعلى مستوى الهيكلة الإداريّة. إنّه مشروع أمّة كاملة وجهود متكاملة ورؤًى مكتملة على امتداد الزمان والمكان، إنّه جهدٌ مستمرّ لا يحقّ له أن ينقطع؛ لأنّ انقطاعه يعني خسائر حضاريّة كبيرة في زمن السرعة التكنولوجيّة والمعرفيّة الخارقة التي يجري بها هذا العصر. وكلّ سوء تقدير لحجم هذا المشروع وأهمّيّته هو جريمة في حقّ العربيّة وفي حقّ الأجيال القادمة.
من هذا المنطلق، يمكننا رصد مكامن الوعي بالمكانة الحضاريّة لمشروع إنعاش اللغة العربيّة في هذا التقرير من خلال منطلقاته وغايته ووسيلته. أمّا المنطلقات فلم تحصر تناولها لواقع اللغة العربيّة في كونها منطلقات وجدانيّة مفعمة بالحنين إلى لحظة تاريخيّة ماضية - على نسق ما سبقها منذ عشريّات سابقة - بل استند إلى مبرّرات منطقيّة يفرضها الواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والجيو-سياسيّ والموقع المعرفيّ للمجتمعات العربيّة. كما بنى التقرير منهجه على مساءلات ومراجعات لدوافع بعث البحث في ضرورة إنعاش اللغة العربيّة، حيث أقرّ بضرورة استثمارها في التنمية التي اشتدّت حاجة المجتمعات العربيّة إليها اليوم لتدوير سوقها المعرفيّ وتنشيطه بلغتها في ظلّ هيمنة اللغات الأجنبيّة على إنتاج الخدمات. وهو إذ لم يربط مشروعيّة إنجازه بالدوافع الأيديولوجيّة التي سادت في أغلب مشاريع إنعاش اللغة العربيّة السابقة فقد حافظ على الطابع الوجدانيّ الانتمائيّ.
وأمّا من حيث الغاية، فقد اعتمد التقرير منهجيّةً مستقاةً من الواقع بكلّ أمانة، ليس فقط من باب التشخيص، ولكن من باب القراءة الواعية لهذا الواقع بنظرة نقديّة تحليليّة بنّاءة، لا تكتفي بمجرّد التوصيف بقدر ما تسعى إلى التفكير في غير المفكَّر فيه من استثمار مكامن الأمل فيه - رغم قلّتها وقلّة فاعليّتها - في ظلّ الواقع المحتدّ والمشحون للغة العربيّة في مجتمعاتها.
ولأنّ الهدف الأسمى لهذا التقرير هو محاولة تصوّر رؤيةٍ فاعلة لإنعاش اللغة العربيّة في بناء إنسانها بوجدانه وخدمته بتقديم المعرفة والخدمات بلغة وجدانه وبتراكماتها التاريخيّة والهويّاتيّة والاجتماعيّة، يقترح فريق العمل في نهاية كلّ تقرير رؤيةً نموذجيّة تنطلق من إيجابيّات الواقع لتجعلها منفذًا لتحقيق عبور ناجح باللغة العربيّة إلى المأمول. ومن ثمّةَ، كانت المقترحات والرؤى الاستشرافيّة هي ركيزة هذا التقرير والأساس الذي يسعى لتأسيسه قاعدةً معرفيّةً تُبنى عليها التقارير المقبلة، ذلك أنّ اقتراح الحلول نظريًّا لا تنحلّ به الأزمة واقعيًّا ما لم تتوفّر متابعة راشدة مواكِبة على المستوى التنفيذيّ، ومتابعة تقييميّة على مستوى المراجعات البَعديّة.
وأمّا من حيث الوسيلة، فقد انفتح التقرير على رصد التجارب الناجحة التي كان لها الأثر في جعل اللغة في خدمة مجتمعاتها، بغضّ النظر عن طبيعة هذه اللغة أو هذه المبادرات. من ذلك ما أضاء عليه من تجارب داخل المنطقة العربيّة رأى أنّه يمكن تنميتها أو استنساخها أو تكييفها في أطرٍ هيكليّة مختلفة توضع في خدمة "تعريب المعرفة ومجتمع المعرفة" العربيَّين. وفي هذا المنهج، لا يلغي التقرير أيّ قناة يمكنه الاستفادة منها، لأنّ المعتمَد في البحث هو فكرة الاستثمار المعرفيّ الذي هو في واقعه إرثٌ إنسانيّ حضاريّ. كما لا يلغي التجارب العربيّة مهما قلّت أو بدت غير ناضجة كلّيًّا، لأنّ وجود بذور هذا المشروع هو دليل على حرص الذهنيّة العربيّة على تحقيق اكتفاء معرفيّ كامل باللغة العربيّة.
وقد اجتمعت لهذا التقرير الظروف التي تهيّئه لأن يكون على مستوى الطموحات المعلّقة به، ومنها الرعاية الشخصيّة السامية التي حظي بها من قِبَل سعادة نورة الكعبيّ وزيرة الثقافة والشباب بدولة الإمارات العربيّة المتّحدة التي تبنّت مبدأ تعزيز الانتماء إلى اللغة العربيّة بوصفه رابطًا وجدانيًّا بين الإنسان العربيّ وهويّته وبوصفه أحد عوامل اللُّحمة المجتمعيّة وبوصفه حاجةً وجوديّة لاستمرار الحياة وازدهارها وفق متطلَّبات الرهان الحضاريّ المتحرّك بسرعة كبيرة. وأمام كلّ هذه الرعاية والاهتمام يتوجّه فريق العمل بالأصالة عن أفراده وبالنيابة عن الإنسان والمجتمع العربيَّين بالشكر الجزيل لمعالي الوزيرة، وبالتقدير للمجهود الواعي الذي تحيط به اللغةَ والهويّة العربيَّتين في سبيل تنمية شاملة ومستدامة للمجتمعات العربيّة والإنسان العربيّ.
ومن باب تثمين الجهد المبذول في هذا التقرير، نتوجّه بالشكر والتحيّة لأعضاء الفريق البحثيّ وللكاتبات والكتّاب الضيوف الذين أسهموا بمقالات الرأي ودراسات الحالة، وهم جميعًا يمثّلون نخبة من الباحثين والأكاديميّين العرب الذين اجتمعوا على قلب عربيّ واحد يحمل من الانتماء إلى هذه اللغة القدر نفسه الذي يحمله من الائتمان عليها، بوعي ومسؤوليّة وموضوعيّة وفهم لطبيعة الأزمة من الداخل، والذين حرصوا على أن يكون غرض التقرير هو الإضاءة على ما يمكن استثماره من سبل الانتعاش اللغويّ والحضاريّ فيما يستحثّ الهمم لدعم اللغة العربيّة والارتفاع بها.
ويحدونا الأمل أن يكون لنتائج هذا التقرير استمراريّة في الإنجاز والبناء لمشاريع تقارير ودراسات قادمة، سواء من حيث ما يقدّمه من معطيات معرفيّة أو رصد ميدانيّ أو رؤى استشرافيّة. كما نرجو أن يشكّل دعامة قويّة وأرضيّة صلبة يمكن الانطلاق منها لمراجعة وضع اللغة العربيّة دوريًّا من قبل الفاعلين اللغويّين والمجتمع المدنيّ وصنّاع القرار، وأن يكون كالبوصلة التي يمكن الاستهداء بها لإنجاز خطط مستجدّة وبناء استراتيجيّات تناسب الحاجات الظرفيّة واللحظات التاريخيّة التي تمرّ بها اللغة العربيّة وإنسانها ومجتمعها. ولذلك يرفع هذا التقرير شعار: اللغة العربيّة مسؤوليّةٌ معرفيّةٌ حضاريّةٌ، اللغة العربيّة مسؤوليّتنا جميعًا.